فصل: الضرب الثاني الايجاز بالقصر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر (نسخة منقحة)



.[حذف الواو وإثباتها]:

واعلم أنه قد حذف الواو وأثبتت في مواضع، فأما إثباتها فنحو قوله تعالى: {وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم} وأما حذفها فنحو قوله تعالى: {وما أهلكنا من قرية إلا ولها منذرون}.
وعلى هذا فلا يجوز حذف الواو وإثباتها في كل موضع، وإنما يجوز ذلك فيما هذا سبيله من هاتين الآيتين.
ولنبين لك في ذلك رسما تتبعه، فنقول: اعلم أن كل اسم نكرة جاء خبره بعد إلا يجوز إثبات الواو في خبره وحذفها، كقولك: ما رأيت رجلا إلا وعليه ثياب، وإن شئت قلت: إلا عليه ثياب، بغير واو، فإن كان الذي يقع على النكرة ناقصا فلا يكون إلا بحذف الواو، نحو قولك: ما أظن درهما إلا هو كافيك، ولا يجوز إلا وهو كافيك، بالواو، لأن الظن يحتاج إلى شيئين، فلا يعترض فيه بالواو، لأنه يصير كالمكتفي من الأفعال باسم واحد، وكذلك جواب ظننت وكان وإن وأشباهها، فخطأ أن تقول: إن رجلا وهو قائم، ونحو ذلك، ويجوز هذا في ليس خاصة، تقول ليس أحد إلا وهو قائم، لأن الكلام يتوهم تمامه بليس وبحرف ونكرة ألا ترى أنك تقول ليس أحد، وما من أحد، فجاز فيها إثبات الواو، ولم يجوز في الظن، لأنك لا تقول: ما أظن أحدا، فأما أصبح وأمسى ورأى فإن الواو فيهن أسهل، لأنهن توأم في حال، وكان وأظن ونحوهما بنين على النقص، إلا إذا كانت تامة، وكذلك لا في التنزيه وغيرها، نحو لا رجل، وما من رجل، فيجوز إثبات الواو فيها وحذفها.
واعلم أن العرب قد حذفت من أصل الألفاظ شيئا لا يجوز القياس عليه، كقول بعضهم:
كأن إبريقهم ظبي على شرف ** مفدم بسبا الكتان ملثوم

فقوله بسبا الكتان يريد بسبائب الكتان وكذلك قول الآخر:
يذرين جندل حائر لجنوبها ** فكأنما تذكي سنابكها الحبا

فهذا وأمثاله مما يقبح ولا يحسن، وإن كانت العرب قد استعملته فإنه لا يجوز لنا أن نستعمله.

.القسم الثاني: ما لا يحذف منه شيء:

وأما القسم الثاني من الإيجاز فهو ما لا يحذف منه شيء، وذلك ضربان أحدهما ما ساوى لفظه معناه، ويسمى التقدير، والآخر: ما زاد معناه على لفظه، ويسمى الإيجاز بالقصر.
فأما الإيجاز بالتقدير فإنه الذي يمكن التعبير عن معناه بمثل ألفاظه وفي عدتها.
أما الإيجاز بالقصر فإنه ينقسم قسمين: أحدهما: ما دل لفظه على محتملات متعددة، وهذا يمكن التعبير عنه بمثل ألفاظه وفي عدتها، والآخر: ما يدل لفظه على محتملات متعددة، ولا يمكن التعبير عنه بمثل ألفاظه وفي عدتها، لا، بل يستحيل ذلك.

.الضرب الاول الايجاز بالتقدير:

ولنورد الآن الضرب الأول الذي هو الإيجاز بالتقدير، فمما جاء منه قوله تعالى: {قتل الإنسان ما أكفره من أي شيء خلقه من نطفة خلقه فقدره ثم السبيل يسره ثم أماته فأقبره ثم إذا شاء أنشره كلا لما يقض ما أمره} فقوله: {قتل الإنسان} دعاء عليه. وقوله: {ما أكفره} تعجب من إفراطه في كفران نعمة الله عليه، ولا نرى أسلوبا أغلظ من هذا الدعاء والتعجب، ولا أخشن مسا، ولا أدل على سخط مع تقارب طرفيه، ولا أجمع للائمة على قصر منته، ثم إنه أخذ في صفة حاله من ابتداء حدوثه إلى منتهى زمانه، فقال: {من أي شيء خلقه} ثم بين الشيء الذي خلق منه بقوله: {من نطفة خلقه فقدره} أي: هيأه لما يصلح له: {ثم السبيل يسره} أي: سهل سبيله وهو مخرجه من بطن أمه، أو السبيل الذي يختار سلوكه من طريقي الخير والشر، والأول أولى، لأنه تال لخلقته وتقديره، ثم بعد ذلك يكون تيسير سبيله لما يختاره من طريقي الخير والشر، {ثم أماته فأقبره} أي: جعله ذا قبر يوارى فيه: {ثم إذا شاء أنشره} أي: أحياه: {كلا} ردع للإنسان عما هو عليه: {لما يقض ما أمره} أي: لم يقض مع تطاول زمانه ما أمر الله به، يعني أن إنسانا لم يخل من تقصير قط، ألا ترى إلى هذا الكلام الذي لو أردت أن تحذف منه كلمة واحدة لما قدرت على ذلك، لأنك كنت تذهب بجزء من معناه والإيجاز هو ألا يمكنك أن تسقط شيئا من ألفاظه.
والآيات الواردة من هذا الضرب كثيرة، كقوله تعالى: {فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف} فقوله: {فلم ما سلف} من جوامع الكلم، ومعناه أن خطاياه الماضية قد غفرت له وتاب الله عليه فيها، إلا أن قوله: {فله ما سلف} أبلغ: أي أن السالف من ذنوبه لا يكون عليه إنما هو له، وكذلك ورد قوله تعالى: {من كفر فعليه كفره} فعليه كفره كلمة جامعة تغني عن ذكر ضروب من العذاب، لأن من أحاط به كفره فقد أحاطت به كل خطيئة.
وعلى نحو من هذا جاء قوله تعالى: {إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون} فهذا الآية من جوامع الآيات الواردة في القرآن الكريم، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأها على الوليد بن المغيرة فقال له: يا ابن أخي، أعد، فأعاد النبي صلى الله عليه وسلم قراءتها عليه، فقال له: إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه مثمر وإن أسفله لمغدق، وما هو بقول البشر.
ومن هذا النحو قوله تعالى: {ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد ونفخ في الصور ذلك يوم الوعيد وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد} وهذه الآيات من قوارع القرآن العجيبة التي دلت على تخويف وإرهاب ترق القلوب، وتقشعر منه الجلود، وهي مشتملة مع قصرها على حال الإنسان منذ خلقه إلى حين حشره وحشر غيره من الناس، وتصوير ذلك الأمر الفظيع في أسهل لفظ وأقربه، وما مررت عليها ألا جدت لي موعظة وأحدثت عندي إيقاظا.
ومن هذا الضرب ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في دعائه لأبي سلمة عند موته فقال: «اللهم ارفع درجته في المهتدين، واخلفه في عقبه في الغابرين لنا وله يا رب العالمين» وهذا دعاء جامع بين الإيجاز وبين مناسبة الحال التي وقع فيها، فأوله مفتتح بالمهم الذي يفتقر إليه المدعو له تلك الحال، وهو رفع درجته في الآخرة، وثانيه مردف بالمهم الذي يؤثر المدعو له من صلاح حاله عقبه من بعده في الدنيا، وثالثه مختتم بالجمع بين الداعي والمدعو له، وهذا من الإيجاز البليغ الذي هو طباق ما قصد له، وكلام النبي صلى الله عليه وسلم هكذا كما قال: «أوتيت جوامع الكلم» وكذلك ورد قوله يوم بدر، فإنه قال: «هذا يوم له ما بعده» وه شبيه بقوله تعالى: {فله ما سلف} ولما جرح عمر بن الخطاب رضي الله عنه الجراحة التي مات بها اجتمع إليه الناس، فجاءه شاب من الأنصار وقال: أبشر يا أمير المؤمنين ببشرى الله، لك من صحبة رسول الله وقدم في الإعلام ما علمت، ووليت فعدلت ثم شهادة.
وهذا كلام سديد قد حوى المعنى المقصود، وأتى به في أوجز لفظ وأحسنه، ومع ما فيه من الإيجاز فإنه مستغرب، وسبب استغرابه أنه جعل المساءة بشرى، وأخرجها مخرج المسرة، وتلطف في ذلك فأبلغ، ولو أراد الكاتب البليغ والخطيب المصقع، أن يأتي بذلك على هذا الوجه لأعوزه.
ومن هذا النمط ما كتبه طاهر بن الحسين إلى المأمون عند لقائه عيسى بن ماهان وهزمه إياه وقتله، فكتب إليه: كتابي إلى أمير المؤمنين ورأس عيسى بن ماهان بين يدي، وعسكره مصرف تحت أمري، والسلام.
وهذا من الكتب المختصرة التي حوت الغرض المطول، وما يكتب في هذا المقام مثله.
ولما أرسل المهلب بن صفرة أبا الحسن المدائني إلى الحجاج بن يوسف يخبره أخبار الأزارقة كلمه كلاما موجزا كالذي نحن بصدد ذكره هاهنا، وذاك أن الحجاج سأله فقال: كيف تركت المهلب؟ فقال: ما أدرك ما أمل، وأمن مما خاف، فقال: كيف هو لجنده؟ قال: والد رءوف، قال: كيف جنده له؟ قال: أولاد بررة، قال: كيف رضاهم عنه، قال: وسعهم بفضله، وإغناهم بعدله، قال كيف تصنعون إذا لقيتم عدوا؟ قال: نلقاهم بجدنا، ويلقوننا بجدهم، قال: كذلك الجد إذا لقي الجد، قال: فأخبرني عن المهلب، قال: هم أحلاس القتال بالليل، حماة السرج بالنهار قال: أيهم أفضل؟ قال: هم كحلقة مضروبة لا يعرف طرفاها، فقال الحجاج لجلسائه: هذا والله هو الكلام الفصل الذي ليس بمصنوع.
وقد ورد في الأخبار النبوية من هذا الضرب شيء كثير وسأورد منه أمثلة يسيرة.
فمن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: «الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور متشابهات» وهذا الحديث من أجمع الأحاديث للمعاني الكثيرة، وذاك أنه يشتمل على جل الأحكام الشرعية فإن الحلال والحرام إما أن يكون الحكم فيهما بينا لا خلاف فيه بين العلماء، وإما أن يكون خافيا يتجاذبه وجوه التأويلات، فكل منهم يذهب فيه مذهبا.
وكذلك جاء قوله صلى الله عليه وسلم: «الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى» فإن هذا الحديث أيضاً من جوامع الأحاديث للأحكام الشرعية.
ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «المضعف أمير الركب» وقد ورد آخر هذا الحديث بلفظ آخر فقال صلى الله عليه وسلم: «سيروا بسير أضعفكم» إلا أن الأول أحسن، لأنه أبلغ معنى فإن الأمير واجب الحكم فهو يتبع، وإذا كان المضعف أمير الركب كانوا مؤتمرين له في سيرهم ونزولهم، وهذا المعنى لا يوجد في قوله: «سيروا بسير أضعفكم».
وأحسن من هذا كله ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم في حديث مطول يتضمن سؤال جبريل عليه السلام فقال من جملته: «ما الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» فقوله: «تعبد الله كأنك تراه» من جوامع الكلم، لأنه ينوب مناب كلام كثير، كأنه قال: تعبد الله مخلصا في نيتك، واقفا عند أدب الطاعة من الخضوع والخشوع، آخذا أهبة الحذر، وأشباه ذلك، لأن العبد إذا خدم مولاه ناظرا إليه استقصى في آداب الخدمة بكل ما يجد إليه السبيل وما ينتهي إليه الطوق.
ومما أطربني من ذلك حديث الحديبية، وهو أنه جاء بديل بن ورقاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: إني تركت كعب بن لؤي بن عامر بن لؤي معهم العوذ المطافيل، وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «إن قريشا قد نهكتهم الحرب، فإن شاءوا ماددناهم مدة ويدعوا بيني وبين الناس فإن أظهر عليهم وأحبوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس وإلا كانوا قد جموا، وإن أبوا فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي هذه ولينفذن الله أمره» وهذا الحديث من جوامع الكلم وهو من الفصاحة والبلاغة على غاية لا ينتهي إليها وصف الواصف.
وأما ما ورد من ذلك شعرا فقول النابغة:
وإنك كالليل الذي هو مدركي ** وإن خلت أن المنتأى عنك واسع

وتخصيصه الليل دون النهار مما يسأل عنه.
وكذلك قوله:
ولست بمستبق أخا لا تلمه ** على شعث أي الرجال المهذب

وعلى هذا الأسلوب ورد قول الأعشى في اعتذاره إلى أوس بن لام عن هجائه إياه:
وإني على ما كان مني لنادم ** وإني إلى أوس بن لام لتائب

وإني إلى أوس ليقبل عذرتي ** ويصفح عني ما حييت لراغب

فهب لي حياتي فالحياة لقائم ** بشكرك فيها خير ما أنت واهب

سأمحو بمدح فيك إذ أنا صادق ** كتاب هجاء سار إذ أنا كاذب

وهذا من المعاني الشريفة في الألفاظ الخفيفة، وهو من طنانات الأعشى المشهورة.
وعلى نحو منه جاء قول الفرزدق:
صبحناهم الشعث الجياد كأنها ** قطا هيجته يوم ريح أجادله

إلى كل حي قد خطبنا بناتهم ** بأرعن جرار كثير صواهله

إذا ما التقينا انكحتنا رماحنا ** من القوم أبكارا كراما عقائله

وإنا لمناعون تحت لوائنا ** حمانا إذا ما عاد بالسيف حامله

وهذا من محاسن ما يجيء في هذا الباب.
ومما يجري هذا المجرى قول جرير:
تمنى رجال من تميم منيتي ** وما ذاد عن أحسابهم ذائد مثلي

فلو شاء قومي كان حلمي فيهم ** وكان على جهال أعدائهم جهلي

وكذلك ورد قوله متغزلا، وهو من محاسن أقواله:
سرت الهموم فبتن غير نيام ** وأخو الهموم يروم كل مرام

ذم المنازل بعد منزلة اللوى ** والعيش بعد أولئك الأقوام

ولقد أراك وأنت جامعة الهوى ** أثني بعهدك خير دار مقام

طرقتك صائدة القلوب فليس ذا ** حين الزيارة فارجعي بسلام

تجري السواك على أغر كأنه ** برد تحدر من متون غمام

لو كان عهدك كالذي حدثتنا ** لوصلت ذاك فكان خير ذمام

ولقد أراني والجديد إلى بلى ** في موكب طرف الحديث كرام

لولا مراقبة العيون أريتنا ** حدق المها وسوالف الآرام

وإذا صرفن عيونهن بنظرة ** نفذت نوافذها بغير سهام

هل تنفعنك إن قتلن مرقشا ** أو ما فعلن بعروة بن حزام

وحلاوة هذا الكلام أحسن من إيجازه، ولقد أعوز غيره أن يأتي بمثله حتى أقر بإعوازه.
ومن باب الإيجاز الذي يسمى التقدير قول علي بن جبلة:
وما لأمريء حاولته عنك مهرب ** ولو حملته في السماء المطالع

بلى هارب ما يهتدي لمكانه ** ظلام ولا ضوء من الصبح ساطع

فهذا هو الكلام الذي ألفاظه وفاق معانيه، فإنه قد اشتمل على مدح رجل بشمول ملكه وعموم سلطانه، وأنه لا مهرب عنه لمن يحاوله، وإن صعد السماء، ثم ذكر جميع المهارب في المشارق والمغارب، وأشار إلى أنه يبلغ الظلام والضياء، وذلك مما لم تزد عبارته على المعنى المندرج تحته، ولا قصرت عنه.
ومن هذا الضرب قول أبي النواس وهو من نادر ما يأتي في هذا الموضع:
ودار ندامى عطلوها وأدلجوا ** بها أثر منهم جديد ودارس

مساحب من جر الزقاق على الثرى ** وأضغاث ريحان جني ويابس

حبست بها صحبي فجددت عهدهم ** وإني على أمثال تلك لحابس

تدار علينا الراح في عسجدية ** حبتها بأنواع التصاوير فارس

قراراتها كسرى وفي جنباتها ** مها تدريها بالقسي الفوارس

فللراح ما زرت عليه جيوبها ** وللماء ما دارت عليه القلانس

ومما انتهى إلي من أخبار ابن المزرع، قال: سمعت الجاحظ يقول: لا أعرف شعرا يفضل هذه الأبيات التي لأبي نواس، ولقد أنشدتها أبا شعيب القلاق فقال: والله يا أبا عثمان إن هذا لهو الشعر، ولو نقر لطن، فقلت له: ويحك! ما تفارق عمل الجرار والخزف ولعمري إن الجاحظ عرف فوصف وخبر فشكر، والذي ذكره هو الحق.
وعلى هذا الأسلوب جاء قول أبي تمام:
إن القوافي والمساعي لم تزل ** مثل النظام إذا أصاب فريدا

هي جوهر نثر فإن ألفته ** بالشعر صار قلائدا وعقودا

في كل معترك وكل مقامة ** يأخذن منه ذمة وعهودا

فإذا القصائد لم تكن خفراءها ** لم ترض منها مشهدا مشهودا

من أجل ذلك كانت العرب الألى ** يدعون هذا سوددا محدودا

وتند عندهم العلا إلا علا ** جعلت لها مرر القريض قيودا

.الضرب الثاني الايجاز بالقصر:

وأما الضرب الثاني: وهو الإيجاز بالقصر؛ فإن القرآن الكريم ملآن منه، وقد تقدم القول أنه قسمان:

.القسم الأول: مايدل على محتملات متعددة:

فمن ذلك قوله تعالى: {ولقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا لا تخاف دركا ولا تخشى فأتبعهم فرعون بجنوده فغشيهم من اليم ما غشيهم وأضل فرعون قومه وما هدى} فقوله: {فغشيهم من اليم ما غشيهم} من جوامع الكلم التي يستدل على قلتها بالمعاني الكثيرة: أي غشيهم من الأمور الهائلة والخطوب الفادحة ما لا يعلم كنهه إلا الله، ولا يحيط به غيره.
ومن هذا الضرب قوله تعالى: {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين} فجمع في الآية جميع مكارم الأخلاق لأن في الأمر بالمعروف صلة الرحم، ومنع اللسان عن الغيبة وعن الكذب، وغض الطرف عن المحرمات، وغير ذلك وفي الإعراض عن الجاهلين الصبر والحلم، وغيرهما.
وقال بعض الأعراب في دعائه: اللهم هب لي حقك، وأرض عني خلقك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «هذا هو البلاغة» ومن ذلك قوله عز وجل: {أولئك لهم الأمن} فإنه دخل تحت الأمن جميع المحبوبات، وذلك أنه نفى به أن يخافوا شيئا من الفقر والموت وزوال النعمة ونزول النقمة، وغير ذلك من أصناف المكاره.
وأشباه هذا في القرآن الكريم كثيرة، فهو يكثر في بعض الصور، ويقل في بعض، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من شاء يرتع في الرياض الأنائق فعليه بآل حم» ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: «الخراج ضمان» وذاك أن رجلا اشترى عبدا، فأقام عنده مدة، ثم وجد به عيبا، فخاصم البائع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فرده عليه، فقال: يا رسول الله إنه استغل غلامي، فقال: «الخراج بالضمان» ومعنى قوله: «الخراج بالضمان» أن الرجل إذا اشترى عبدا فاستغله ثم وجد به عيبا دلسه عليه البائع فله أن يرده ويسترجع الثمن جميعه، ولو مات العبد أو أبق أو سرقه سارق كان في مال المشتري، وضمانه عليه، وإذا كان ضمانه عليه فخراجه له: أي له ما تحصل من أجرة عمله.
وأما ما ورد شعرا، فقول السموءل بن عاديا الغساني من جملة أبياته اللامية المشهورة، وذلك قوله منها:
وإن هو لم يحمل على النفس ضيمها ** فليس إلى حسن الثناء سبيل

فإن هذا البيت قد اشتمل على مكارم الأخلاق جميعها، من سماحة وشجاعة، وعفة، وتواضع، وحلم، وصبر، وغير ذلك، فإن هذه الأخلاق كلها من ضيم النفس، لأنها تجد بحملها ضيما: أي مشقة وعناء.
وقد تقدم القول أن الإيجاز بالقصر يكون فيما تضمن لفظه محتملات كثيرة، وهذا البيت من ذلك القبيل ولا أعلم أن شاعرا قديما ولا حديثا أتى بمثله، وقد أخذه أبو تمام فأحسن في أخذه، وهو:
وظلمت نفسك طالباً إنصافها ** فعجبت من مظلومة لم تظلم

ففاز في بيته هذا بالمقابلة بين الضدين في الظلم والإنصاف، ثم قال: فعجبت من مظلومة لم تظلم، وهذا أحسن من الأول، ومعنى قوله: ظلمت نفسي طالبا إنصافها، أي: أنك أكرهتها على مشاق الأمور وإذا فعلت ذلك فقد ظلمتها، ثم إنك مع ظلمك إياها قد أنصفتها، لأنك جلبت إليها أشياء حسنة تكسبها ذكرا جميلا ومجدا مؤثلا، فأنت منصف لها في صورة ظالم، وكذلك قوله: فعجبت من مظلومة لم تظلم، أي أنك ظلمتها وما ظلمتها لأن ظلمك إياها أدى إلى ما هو جميل حسن.
وهذا القدر في الأمثلة كاف في هذا الباب.

.القسم الثاني: ما لا يمكن التعبير عن ألفاظه بألفاظ أخرى:

القسم الآخر من الضرب الثاني، في الإيجاز بالقصر وهو الذي لا يمكن التعبير عن ألفاظه بألفاظ أخرى مثلها وفي عدتها، وهو أعلى طبقات الإيجاز مكانا، وأعوزها إمكانا، وإذا وجد في كلام بعض البلغاء فإنما يوجد شاذا نادرا.
فمن ذلك ما ورد في القرآن الكريم، كقوله تعالى: {ولكم في القصاص حياة} فإنه قوله تعالى: {القصاص حياة} لا يمكن التعبير عنه إلا بألفاظ كثيرة، لأن معناه أنه إذا قتل القاتل امتنع غيره عن القتل، فأوجب ذلك حياة للناس، ولا يلتفت إلى ما ورد عن العرب من قولهم: القتل أنفى للقتل، فإن من لا يعلم يظن أن هذا على وزن الآية، وليس كذلك، بل بينهما فرق من ثلاثة أوجه: الأول: أن: {القصاص حياة} لفظتان، والقتل أنفى للقتل ثلاثة ألفاظ، الوجه الثاني: أن في قولهم القتل أنفى للقتل تكريرا ليس في الآية، الثالث: أنه ليس كل قتل نافيا للقتل، إلا إذا كان على حكم القصاص.
وقد صاغ أبو تمام هذا الوارد عن العرب في بيت من شعره، فقال:
وأخافكم كي تغمدوا أسيافكم ** إن الدم المعتر يحرسه الدم

فقوله إن الدم المعتر يحرسه الدم أحسن مما ورد عن العرب من قولهم، القتل أنفى للقتل ويروى عن معن بن زائدة أنه سأله أبو جعفر المنصور فقال له: أيما أحب إليك دولتنا أو دولة بني أمية؟ فقال: ذاك إليك، فقوله ذاك إليك من الإيجاز بالقصر الذي لا يمكن التعبير عنه إلا بألفاظ كثيرة، لأن معنى قوله ذاك إليك وهو لفظتان أنه زاد إحسانك على إحسان بني أمية فأنتم أحب إلي، وهذه عشرة ألفاظ، فإن قيل: كيف لا يمكن التعبير عن ألفاظ أخرى مثلها وفي عدتها وفي المترادف من الألفاظ ما هو دليل على خلاف ذلك؟ فإنه إذا قيل راح ثم قيل مدامة أو سلافة كان ذلك سواء، وقامت هذه اللفظة مقام هذه اللفظة.
قلت في الجواب: ليس كل الألفاظ المترادفة يقوم بعضها مقام بعض، ألا ترى أن لفظة القصاص لا يمكن التعبير عنها بما يقوم مقامها، ولما عبر عنها بالقتل فيقول العرب القتل أنفى للقتل ظهر الفرق بين ذلك وبين الآية في قوله تعالى: {ولكم في القصاص حياة} فالذي أردته أنا إنما هو الكلام الذي لا يمكن التعبير عن ألفاظه بألفاظ أخرى مثلها وفي عدتها، فإن كان كذلك وإلا فليس داخلا في هذا القسم المشار إليه.